معرفة

أستاذي محمود علي مكي

في ذكرى رحيله الثانية عشرة، نستذكر الدكتور محمود علي مكي، جبل الثلج الهائم، ومدرسة متفرّدة في الأدب الأندلسي، وأثرٌ لا يُنسى في ذاكرة المعرفة.

future الدكتور محمود علي مكي

سعادتي لا توصف بإتمام الاتفاق أخيرًا مع أسرة المرحوم الدكتور محمود علي مكي (الذي أخصص له هذا المقال والمقالات التالية) لنشر كامل أعماله المطبوعة التي سبق نشرها، أو تلك التي لم تُنشر من قبل ولم تُجمع بين دفتي كتاب. وتشمل أعماله تلك مؤلفاته، وترجماته، وتحقيقاته، ومقالاته، وبحوثه، ومقدماته التي كتبها لأعمال أدبية أو ترجمات أو تحقيقات تراثية... إلخ.

ذكرى الرحيل

اعذرني ـ قارئي العزيز ـ فقد هجمتُ عليك هكذا فجأة، ودون سابق إنذار بإعلان هذا الاتفاق، وبإعلان سعادتي الغامرة به، ودون أن أُمهّد لك الحديث عن هذا العالِم الجليل والأستاذ المكين الدكتور محمود علي مكي (1929 - 2013)، عميد الدراسات الأندلسية والتراث الأندلسي في الجامعات العربية والإسبانية، وصاحب التاريخ المُشرّف والأعمال العظيمة التي سنحاول في هذا المقال والمقالات التالية أن نكشف عنها، وعن سر نعتي لها بالعظمة، وقيمتها، وضرورة نشرها وفق مشروع محدد المعالم، واضح القسمات، نبدأ في تنفيذه قريبًا بإذن الله في مؤسسة دار المعارف... 

لكني أولًا، وقبل التعريف بالأستاذ الجليل، الذي تحل ذكرى رحيله الثالثة عشرة في السابع من أغسطس (إذ توفي الدكتور مكي في السابع من أغسطس عام 2013، وهذا هو تاريخ الوفاة الدقيق بحسب ما أكدته لي ابنته العزيزة الدكتورة ماجدة مكي، وعلى خلاف الشائع بأنه توفي يوم 8، وهذا غير دقيق)، أقول: إنني أعود بذاكرتي قرابة ثلاثين عامًا مضت، حيث تلقيتُ أول دروسي في مادة «الأدب الأندلسي» وتاريخه على يدي العلّامة الجليل د. محمود علي مكي، وهو العَلم البارز، أستاذ الدراسات الأندلسية والأدب المقارن في جامعة القاهرة والجامعات العربية والإسبانية.

كنتُ طالبًا في الفرقة الثانية، عندما كان الدكتور مكي أستاذًا متفرغًا، وقد أنجز دراساته ومؤلفاته الفخمة الشاهقة التي مثّلت مكتبة عامرة بكل ما تعنيه كلمة «مكتبة»؛ متنًا ضخمًا يوازي جهد مؤسسات علمية ومراكز بحثية بأكملها.

في العام الجامعي (1998 / 1999)، وكنتُ طالبًا بالفرقة الثانية بكلية الآداب ـ جامعة القاهرة، دخل إلى قاعة المحاضرات الأستاذ الذي سيُحاضرنا في مادة «الأدب الأندلسي»، وكنا ندرسه للمرة الأولى. أكثرنا لم يكن يعرفه، ولم يسمع به، ولم يره قط، وربما كان اسمه لم يثبت بعد في ذاكرات الطلاب والطالبات، باستثناء مرور عابر من كتابٍ سقط من الذاكرة أو مقالة قديمة...

شيخ وقور، قصير القامة، شعره أبيض تمامًا، يرتدي بدلة كاملة رمادية اللون، ورابطة عنق غير محكمة على ياقة القميص. يسير بتؤدة وهدوء، وثقة أيضًا. تجاوز السبعين، أو يوشك أن يجاوزها. تحدّث الرجل بصوت مميز، عميق، متغلبًا بصعوبة على الضوضاء الصادرة عن شوشرات الطلاب المعتادة...

فوجئت ـ رغم سنّه الكبيرة ـ بذاكرته الحادة (أجمع كثيرون من أصدقائه وتلاميذه أنها فوق المستوى الطبيعي بمراحل!)، وحضوره العلمي الطاغي، وقدرته الهائلة على التدفق والحديث الشائق المتسلسل بلا انقطاع طوال ساعتين، دون أن يُخطئ في معلومة أو ينسى تاريخًا أو بيت شعر أو اسم عَلَم...

انتهت المحاضرة، وقد رسخ في ضميري أنني لن أفوّت محاضرة لهذا الأستاذ، وقررت أن أتتلمذ على يديه مهما كان الأمر، وألا أترك حرفًا كتبه أو نشره دون أن أقرأه.

ولم يكن هذا الأستاذ الجليل سوى شيخ شيوخ الدراسات الأندلسية في مصر والعالم العربي، والجامعات العالمية: أستاذنا الدكتور محمود علي مكي، أستاذ الأدب الأندلسي، والأدب المقارن، وأستاذ الدراسات النحوية واللغوية بكلية الآداب.

وقد اختلط عليّ الأمر في البداية، وظننته قريبًا للدكتور الطاهر مكي، الأستاذ بكلية دار العلوم، والمتخصص أيضًا في الأدب الأندلسي، لكن هذا لم يكن أكثر من تشابه في الأسماء.

ما بين المحاضرة الأولى والتالية، جمعتُ كل ما في وسعي من معلومات عن الرجل، وذُهلتُ من المكانة الرفيعة التي يحتلها في وجدان وضمير الأساتذة الكبار؛ فهو في نظرهم العلاّمة الاستثنائي في الدراسات العربية الإسبانية، وهو المحقق القدير، والمترجم البارع، والدارس المدقق. وكتبه وأبحاثه، كمترجماته وتحقيقاته، تضعه في مكانة استثنائية حقًّا.

ومن لحظتها، تمكّن حبّ وتقدير الرجل من قلبي، واحتلّ مكانة رفيعة في نفسي لا تضاهيها مكانة، زادت وترسّخت بعد أن تتلمذت على يديه، ونهلت من علمه.

جبل الثلج الهائم

على مدى سنوات طويلة، وأنا أحمل إحساسًا بأنني ملزَم أدبيًّا وتاريخيًّا بالكتابة عن أستاذي الجليل؛ لأنه لم يلقَ حتى الآن ـ فيما أرى ـ ما يستحقه من حضور ومكانة تتسق والدور الذي لعبه ومارسه أستاذًا وأكاديميًّا نموذجيًّا (ومؤلفًا، ومترجمًا، ومحقّقًا، ومؤسسًا لأقسام الأدب واللغات الإسبانية والبرتغالية... إلخ).

وكأنه، رحمه الله، جبل الثلج الهائم وحيدًا في محيطٍ منعزل، لا يبدو منه إلا أقله، ويغوص جرمه المهول في الأعماق الباردة المظلمة، لا يراه أحد، ولا يعلم بقيمته أحد، ولم يتعمق أحدٌ فيما أنجزه من أعمالٍ تمثل في صميمها ولبّها وقيمتها إضافات نوعية في تاريخ العلوم اللغوية والتاريخية، وتاريخ الأدب، وتاريخ الثقافة عمومًا، أو هذا ما أدّعيه وأُوقن به!

عاش عمرًا مخلصًا للعلم، متبتلًا زاهدًا، غير معنيّ لا بالمناصب، ولا بالشهرة، ولا بالبروباجندا، كان يعنيه فقط الأصالة والإتقان، والوفاء بمسؤولياته الأخلاقية والفكرية والإنسانية.

وقد رأيته ـ وهو شيخ عجوز ـ يقف في قاعة المحاضرات، يرتدي حُلّةً كاملة تقليدية، ورباط عنق غير محكم الربط! يقف بقامته القصيرة في أول محاضرة يُلقيها علينا في مادة «الأدب الأندلسي»، وأغلبنا ـ إن لم يكن كلّنا ـ «جاهل» بالرجل، وباسمه، وتاريخه، فلا يكفّون عن ثرثرتهم، ولا أحاديثهم الخافتة كحَرَك الفئران. لا يكترث الأستاذ الجليل لكل هذا، وبترفع الكبار، يتغاضى عن الفوضى والثرثرة والشوشرة الحاصلة في المكان.

ثم يبدأ في إلقاء محاضرته، فكأنه يُوحى إليه من السماء! يتحدث بطلاقة متناهية، وحضورٍ وافر، وقدرة مذهلة على التدفق المنظّم ـ إن جاز التعبير! ـ لا يتلعثم، ولا يرتبك، ولا يُخطئ في حرف! يتدفق في حديثه بوضوح وسلامة وسلاسة، بهرتني على المستوى الشخصي، وجعلتني أجمع كل تركيزي لأستمع لهذا الأستاذ الذي أراه للمرة الأولى!

وفوجئت ـ رغم سنّه المتقدمة ـ بذاكرته الحادة غير الطبيعية، وحضوره العلمي والمعرفي الطاغي، ومقدرة ما زالت حتى اللحظة تبهرني، وتجعلني مشدودًا ومنجذبًا لهذا النموذج الفذّ المقتدر على الحديث والاسترسال في المحاضرة بلا انقطاع طوال ساعتين متصلتين، دون أن يُخطئ في معلومة، أو ينسى تاريخًا، أو بيت شعر، أو اسم عَلَم...

من وقتها، قررتُ أن أتتلمذ على يد هذا الأستاذ، وألا أترك حرفًا كتبه أو نشره دون أن أطالعه...

ومنذ اللحظة، انعقدت أواصر المحبة والإجلال والاحترام بيني وبين هذا الأستاذ، بل في قرارة نفسي اتخذته «شيخًا» بالمعنى المعرفي «الصوفي»، فهذا الرجل وراءه محيط من العلوم والمعارف، وهو كبير في السن، ويبدو تمامًا أنه زاهد، مكتفٍ بما عنده، راضٍ بما قدمه، مستسلم تمامًا لمجرى الأقدار، لتصل به وبنا إلى حيث تشاء!

رحلة العطاء

وهكذا، منذ العام الدراسي (1998 / 1999) ـ وهو العام الذي رأيتُ فيه أستاذي للمرة الأولى، واستمعت إليه ـ وحتى رحيله في أغسطس 2013، لم أفوّت مناسبة، ولا محاضرة، ولا أي فرصة يمكنني الاستماع إليه والتعلّم منه والقراءة له دون أن أفعل!

بل وجدتني دون قصد أهرول وراءه، أجمع ما يتساقط من علمه الغزير، وأدبه الوفير، وثقافته المذهلة، ورصانته الوقورة بلا ادّعاء، ومعرفته التي فاضت على طلابه، وعلى كل من قصده دارسًا أو باحثًا أو مستفسرًا...

كثيرٌ ما لديه، وكثيرٌ ما منح من علمه ومعرفته دون أن يسأل حتى عن هوية هذا الطالب، أو السائل، أو الباحث، حتى ظننتُ أنه لن يكفّ أبدًا عن العطاء ونشر المعرفة.

كل فكرة يطرحها، وكل موضوع يعالجه، وكل شخصية يتناولها، تمثل نموذجًا مثاليًّا في الطرح والعرض، والقدرة على التبسيط، دونما إخلال بقواعد الدقة والتوثيق والعمق الملازمة للمعرفة الإنسانية.

استمعتُ له منبهرًا، وهو يقدّم بين يدي «الأدب الأندلسي» بعرض خريطة شبه جزيرة إيبيريا، عارضًا جغرافيتها وما تميّزت به من خصوصية الموقع والموضع (بلغة جمال حمدان)؛ إذ تقع في أقصى غرب أوروبا، وتحتل اليوم المساحة المعروفة بدولتي إسبانيا والبرتغال، وتكاد تتصل بقارة إفريقيا عند أقصى طرف القارة الشمالي الغربي، يكاد لا يفصلها عنها سوى المضيق الذي سُمي باسم القائد المسلم طارق بن زياد، فصار مضيق جبل طارق.

يُحدّد لنا بدقة متناهية مسارات الدرس، والموضوعات التي سندرسها طوال الفصل الدراسي؛ فلا بد من معرفة التطور السياسي لهذه البقعة منذ أن اتصل العرب والمسلمون بها، ولمحة عن لفظة الأندلس تاريخًا ولغة، ثم محطات التطور التاريخي والسياسي، ثم نبذة مركزة عن الأدب العربي الذي أُنتِج طوال ثمانية قرون، هي التي قضاها العرب والمسلمون هناك، قبل أن يخرجوا منها بسقوط آخر معاقلهم فيها، غرناطة، وذلك سنة 1492م.

ثم إطلالة على أشهر شعراء الأندلس تاريخيًّا، وأشهر كُتّابها، وأشهر أعلامها، وإشارات ذكية ومركزة لأبرز النصوص التي أنتجها أبناء الثقافة الأندلسية خلال القرون الثمانية التي أمضاها العرب والمسلمون هناك.

تخيّل، عزيزي القارئ، أنني أسرد لك هذا الملخص أو الموجز العام من الذاكرة (والله العظيم) بعد ما يقرب من ثلاثين عامًا على استماعي لهذه المحاضرة! تخيّل!

(وللحديث بقية)

# شخصيات # خواطر

علي وصفية: الوجه الآخر لقصص الحب الخالدة
أصداف ولآلئ: في معرفة البدايات
داعمة لحزب العمال ومناهضة للتحول الجنسي: الوجه الآخر لمؤلفة هاري بوتر

معرفة